مذكرات الطاهر الزبيري
دخول الجيش المغربي إلى الأراضي الجزائرية نوفمبر 62 أشعل حرب الرمال
"المراركة حقرونا"..صرخة بن بلة التي ألهبت الجزائريين
الحلقة الأولى
شعباني ومحند أولحاج أوقفا تمردهما وانضما إلى الجيش
المغرب عرض علينا خريطة قال إن حدوده تمتد إلى السنيغال جنوبا
بداية من اليوم ستشرع الشروق اليومي في نشر جزء من مذكرات العقيد زبيري قائد أركان الجيش الجزائري الأسبق في شكل حلقات مسلسلة تتناول في كل حلقة قضية شائكة لم تأخذ نصيبها من التحليل، وفي الحلقة الأولى يقدم زبيري شهادته حول حرب الرمال ضد المغرب في الفترة ما بين (19 أكتوبر ـ 2 نوفمبر 1963)، على أن تتناول الحلقة الثانية قضية إعدام العقيد محمد شعباني نائب قائد الأركان وأصغر عقيد في الجيش الجزائري.
بومدين: كل حبة رمل حررناها ملك للجزائر
كانت للمغرب أطماع توسعية ليس على حساب الصحراء الغربية وفقط بل حتى في الأراضي الجزائرية وموريتانيا وشطر من السنيغال، وقام المغرب بعرض خريطة علينا ادعى بأنها تمثل الحدود التاريخية للمغرب قبل دخول الاستعمار الفرنسي والإسباني إلى أراضيه، وزعم أن القبائل التي تعيش في هذه المناطق بايعت ملوك المغرب وسلاطينه على السمع والطاعة.
ورفض المغرب الاعتراف بموريتانيا كدولة مستقلة في 1960 معتبرا إياها جزءا من التراب المغربي، وكان الجيش الإسباني الذي يحتل الصحراء الغربية حائلا بين المغرب وموريتانيا مما جنب البلدين حربا كان من الممكن أن تنشب بينهما، خاصة وأن الجزائر رفضت في 1963 أن تسمح باستخدام تيندوف كمعبر للجيش المغربي لاحتلال موريتانيا مقابل تسوية المسائل الحدودية مع المغرب، ولم يعترف المغرب بموريتانيا كدولة مستقلة إلا بعد نجاح الوساطة التي قام بها بومدين في 1966.
من جانبها ردت الجزائر على المزاعم المغربية بأن "كل الأراضي التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي وقام جيش التحرير الوطني بتحريرها هي أراض جزائرية"، وكان الوفد الجزائري المفاوض قد طلب خريطة الجزائر الكاملة أثناء المفاوضات مع السلطات الاستعمارية ويبدو أنه تحصل عليها حسبما ذكره لي المرحوم كريم بلقاسم وزير القوات المسلحة في الحكومة المؤقتة خلال الثورة.
وسعى الرئيس بن بله لحل هذا المشكل مع المغرب بالطرق السلمية وإيجاد صيغ للتفاهم مع هذا البلد الشقيق، لكن بومدين كان أكثر صرامة في هذه المسألة وقال بوضوح "كل حبة رمل حررناها من أيدي الاستعمار الفرنسي باسم الثورة الجزائرية فهي ملك للجزائر"، وسمعته في إحدى المرات يعلق على المزاعم المغربية في الجزائر وموريتانيا والصحراء الغربية والسنغال بالقول "يحسبون الشعوب قطعان غنم"، أما شريف بلقاسم فرد على هذه المزاعم قائلا "المغرب لم يواصل النضال من أجل استكمال تحرير الأراضي التي اقتطعتها فرنسا منه".
وحتى عندما كانت الجزائر في خضم حرب التحرير أحرجنا الأشقاء المغاربة بمطالبهم في الأراضي الجزائرية، وقد رد عليهم فرحات عباس رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة "نحن الآن في حرب، وبعد الاستقلال سيكون هناك مجال للحديث في هذه المسألة والتفاوض بشأنها"، وبنى المغرب موقفه على هذا الكلام.
الشرارة التي أشعلت الحرب
بعد استقلال الجزائر أرسلنا الجيش إلى المناطق التي يدَّعي المغرب أن لديه حقوقا تاريخية فيها والمتمثلة في بشار وتيندوف وأقصى الجنوب الجزائري، وقام المغرب بعمليات لجس النبض للتعرف على ردة فعل الجزائر، فأرسل عدة أفراد مسلحين من جيشه إلى منطقة حاسي البيضاء الواقعة بتيندوف داخل التراب الجزائري بحجة جلب الماء من هذه المنطقة، فوجهنا لهم تحذيرا من دخول الأراضي الجزائرية لأي سبب كان.
وتكرر دخول الوحدات العسكرية المغربية إلى الصحراء الجزائرية رغم تحذير الجيش الجزائري لهم مرتين وثلاثة، مما جعل قيادة الناحية العسكرية الثالثة التي تضم بشار وتيندوف تمنع دخول الجنود المغاربة الذين حاولوا انتهاك حرمة التراب الوطني، ووقع هناك قتلى وجرحى، وحمّل كل طرف مسؤولية هذا الاشتباك للطرف الأخر.
ودخل الأشقاء في حرب دامية استمرت لقرابة أسبوعين (من 19 أكتوبر إلى 2 نوفمبر 1963) سميت بحرب الرمال لوقوع رحاها في الصحراء، وجرت عدة معارك بين الجيشين الجزائري والمغربي في حاسي البيضاء وعين تينفوشي وبوعرفة وبني ونيف وتنجدوب وغيرها من المناطق، واستولى الجيش المغربي على بعض الأراضي الجزائرية ولكن مقاتلينا أجبروهم على التراجع.
وتولى العقيد بومدين قيادة العمليات الحربية في مركز عسكري متقدم بتلمسان، ومن هناك كان يوجه التعليمات العسكرية إلى قواتنا المسلحة، واستعان بومدين بمحمد الصديق بن يحيى في ملف المغرب وكان يستشيره في القضايا القانونية.
ورغم شراسة المعارك إلا أن قيادة البلدين في الجزائر والمغرب لم تكونا متحمستين لهذه الحرب التي اندلعت دون أن يكون هناك سابق تخطيط لها من الطرفين، لذلك حرص البلدان على أن لا تسفك الكثير من الدماء في هذه الحرب.
كانت الجزائر حديثة العهد بالاستقلال، والجيش الوطني الشعبي لم يمر عليه سوى عام واحد من تحوله من جيش تحرير إلى جيش نظامي، كان جيشنا منقوصا من ناحية التسليح والتدريب على الحروب التقليدية خاصة في الصحراء المفتوحة والمنبسطة، على عكس حرب العصابات التي كنا نجيدها خاصة في الجبال والغابات والأحراش وحتى المدن بالاعتماد على الكر والفر وإنهاك العدو بهجمات مباغتة وكمائن محكمة.
بينما كان الجيش المغربي حينها أكثر تنظيما ودراية بالحروب التقليدية وذلك لأنهم استلموا وحدات عسكرية منظمة من فرنسا بقيادة إدريس بن عمار قائد أركان الجيش المغربي الذي كان ضابطا كبيرا في الجيش الفرنسي، ويعرف جيدا الجزائر والانقسامات التي كانت تعصف بقياداتها.
حقرونا
تعتبر منطقة بوعرفة جيبا جزائريا ممتد داخل الأراضي المغربية، وهي واقعة في شمال غربي بشار، وسهل موقعها المحاط بالأراضي المغربية من ثلاث جهات على جيش الملك محاصرة قواتنا المرابطة بها، وهاجموا قواتنا من الخلف وتمكنوا من أسر العديد من رجالنا، وكان واضحا عدم التكافؤ بين الجانبين خاصة بعد أن بدأ المغرب في استعمال سلاح الطيران.
أما الجزائر فلم تكن تملك قوات جوية بالمعنى الحقيقي باستثناء طائرات هيليكوبتر، وطائرات تدريب، وحتى سرب الطائرات الحربية الذي أرسلته إلينا مصر خلال الحرب لم نسمح باستخدامه ضد أشقائنا في المغرب تجنبا لزيادة ضراوة المعارك.
وفي خضم هذه الحرب غير المتكافئة مع المغرب، وخاصة وأن الجزائر كانت تواجه تمرد قوات العقيد شعباني في الصحراء وقوات محند أولحاج وحسين آيت أحمد بالقبائل، وجه أحمد بن بله صرخة مدوية قال فيها كلمة مؤثرة "حقرونا" كانت كافية لتحرك نخوة الجزائريين من أقصى البلاد إلى أقصاها وهب أفراد الشعب عن بكرة أبيهم للاستجابة لنداء الوطن والدفاع عن حرمة أراضيه.
كانت مكبرات الصوت المثبتة في ساحات كبرى المدن الجزائرية كعنابة وقسنطينة والعاصمة ووهران تبث الخطاب الحماسي لبن بلة إلى الأمة (لم يكن التلفزيون منتشرا حينها)، وألهبت هذه الكلمة المشاعر الوطنية لأبناء الشعب الذين التحق الكثير منهم بمقر وزارة الدفاع وبجبهات القتال وتم تزويدهم بالبنادق والرشاشات وحتى بالمدافع، وشكلت تسعة فيالق من المتطوعين، في حين بقي الآلاف منهم في الانتظار، لأننا كنا ننتقي العناصر المدربة على السلاح فقط ونرسلهم إلى نواحي تيندوف وعين تيمفوشي وسيدي بلعباس وتلمسان، وفيهم من وصل إلى الحدود المغربية.
حتى الأطفال ألهبتهم كلمة بن بله
ومن الطرائف التي حدثت خلال هذه الحرب أن طفلا صغيرا في عنابة لم يتجاوز تسع سنوات من عمره كان فوق شجرة يستمع إلى خطاب الرئيس أحمد بن بله عبر مكبرات الصوت وهو شبه عار، إذ أنه لم يكن يرتدي سوى قميص وبدون سروال، ويبدو أنه تأثر بشكل مبالغ فيه لخطاب بن بله وراح يصرخ بشجاعة الرجال:
ـ رانا (نحن) هنا يا سيد أحمد.. رانا هنا يا سيد أحمد.
وكلما نتذكر هذه الحادثة نضحك كثيرا، ولكنها تعكس قوة التأثير الذي تركه هذا الخطاب الذي كان مؤثرا للغاية جعل كل فئات الشعب تفزع من جديد لمقارعة الغزاة الجدد.
حتى النساء أردن أن يذهبن إلى جبهات القتال، فالإحساس بمرارة حقرة الأشقاء بعد ظلم الأعداء جعل الجزائريين يهبون هبة رجل واحد للدفاع مجددا عن أرضهم وكرامتهم ونشوة النصر على الجيش الفرنسي لازالت تراودهم.
أولحاج وشعباني يوقفان التمرد ويلتحقان بالجيش
تأثير صرخة بن بله كان لها صداها في جبال القبائل وفي صحراء بسكرة، فالعقيد محند أولحاج المتمرد في جبال القبائل نزل من الجبال وضم خمسة فيالق إلى الجيش الوطني الشعبي وقال كلمته الخالدة "الجزائر قبل كل شيء"، أما العقيد شعباني فهو الآخر أوقف عصيانه وأرسل ثلاثة فيالق من قواته لمواجهة الجيش المغربي.
وخلال حرب الرمال كنت حديث التعيين كقائد للأركان وتوليت إدارة الأمور بقيادة هيئة الأركان بالعاصمة بالتنسيق مع وزير الدفاع العقيد هواري بومدين الذي كان في جبهات القتال ولم يكن بوزارة الدفاع سواي لتنظيم عملية تجميع السلاح والرجال من المتطوعين وإرسالهم إلى جبهات القتال، وكان أحمد بن بله يزورني من حين لآخر في قيادة الأركان لمساعدتي في هذه المهمة.
إلا أن بومدين لم يكن متحمسا لقوافل المتطوعين التي كانت تصل من العاصمة ومن مختلف جهات الوطن إلى جبهات القتال، واعتبر أن النداء الذي وجهه بن بله إلى الشعب جلب الفوضى إلى القوات المسلحة التي هي في غنى عن هذه الأعداد الكبيرة من المتطوعين، على أساس أن الجيش بإمكانه تجنيد المتطوعين حسب احتياجاته ولكن ليس بهذه الأعداد الهائلة.
عبد الناصر وكاسترو يدعمان الجزائر عسكريا
وتجاوز صدى صرخة بن بله حدود الوطن ليصل إلى عدة عواصم عالمية كالقاهرة وهافانا اللتين أعلنتا وقوفهما إلى جانب الجزائر دبلوماسيا وعسكريا، حيث أرسلت كوبا قوات رمزية مشكلة من نحو 50 مقاتلا إلى الجزائر، كما أرسلت ثلاثة سفن محملة بالأسلحة إلى الجزائر ولكنها وصلت بعد انتهاء الحرب بأسبوع لذلك لم نستعمل هذه الأسلحة ضد المغرب، أما "مصر جمال عبد الناصر" فأرسلت إلينا كتيبة من الرجال وزودتنا بسرب مشكل من ست طائرات مقاتلة ولكننا لم نستعملها خلال الحرب.
وهددت مصر وكوبا المغرب بالتدخل العسكري في الحرب إذا واصل اعتداءاته على الجزائر، وبلغ الضغط الدولي على المغرب مداه، حيث طالبت الكثير من الدول الطرفين بتوقيف القتال، وتدخل العديد من الزعماء في العالم للضغط على الملك المغربي الحسن الثاني لوقف عدوانه على الجزائر على غرار "موديبو كايتا" رئيس مالي، وتيتو رئيس يوغسلافيا، ونيكروما رئيس غانا فضلا عن جمال عبد الناصر وفيدال كاسترو اللذين كان دعمهما للجزائر غير مشروط، كما أبدى الاتحاد السوفياتي تضامنه معنا.
وقف إطلاق النار
الملك الحسن الثاني كان أكثر حكمة من قادة جيشه عندما وافق على وقف القتال والرجوع إلى الخطوط الأولى قبل بداية الحرب، والبدء في المفاوضات بشأن ترسيم الحدود، حيث توجهت مع بن بله إلى مالي لمقابلة رئيسها موديبو كايتا الذي قام بوساطة لحل الأزمة بين الجزائر والمغرب.
وبعد وقف إطلاق النار تم تبادل الأسرى بين الجانبين، حيث أسرت الجزائر نحو خمسين أسيرا مغربيا بينما أسر المغرب قرابة أربعين من رجالنا، وفي نفس العام (1963) تأسست منظمة الوحدة الإفريقية التي أقرت مبدأ الحفاظ على الحدود الموروثة عن الاستعمار لتجنب اندلاع مزيد من الحروب بين الدول الإفريقية حديثة الاستقلال بسبب تغير الحدود بعد عقود بل قرون من الاحتلال الأوروبي لإفريقيا.
وكما يقول المثل "رب ضارة نافعة" فإن هذه الحرب زادت من سمعة الجزائر على الساحة الدولية وأظهرت قدرتها على حشد التضامن الدولي لصالحها، خاصة وأن زخم الثورة الجزائرية كان لازال مؤثرا في استقطاب تعاطف شعوب العالم مع الجزائر.
وزادت هذه الحرب في تلاحم الجزائريين فيما بينهم، وإحساسهم بكينونتهم الواحدة، وإدراكهم للأخطار الخارجية التي تهدد أمنهم ووحدة أرضهم إن بقوا منقسمين، وعجلت حرب الرمال بوقف تمرد العقيد محند أولحاج في منطقة القبائل والذي كان من الرجال الأوفياء لكريم بلقاسم، وحتى العقيد شعباني الذي كان مخاصما لبومدين تناسى خلافاته وانضم مع فيالقه إلى الجيش الوطني الشعبي.
كما سرّعت هذه الحرب عملية تحوير الجيش وتطويره من جيش مدرب على حرب العصابات إلى جيش تقليدي مزود بمختلف الأسلحة الحديثة خاصة سلاح الطيران الذي شرعنا في تكوينه وتدريب طيارينا بمساعدة دول صديقة كمصر والاتحاد السوفياتي.
ومن جهة أخرى اقتنع المغرب باستحالة اقتطاعه لأجزاء من الأراضي الجزائرية بالقوة المسلحة، رغم أن الجزائر في حرب الرمال كانت دولة في طور التشكل، وجيشها في مرحلة تحول من وحدات قتالية مدربة على حرب العصابات إلى جيش نظامي حديث، ورغم الانقسامات التي كانت حاصلة بين أبرز الزعامات والقيادات الغاضبة من حكم بن بله ومع ذلك تمكن الجيش الجزائري من التصدي للقوات المغربية بفضل التلاحم الشعبي الواسع مع القيادة والدعم الدولي الكبير سواء دبلوماسيا أو حتى عسكريا خاصة من الكتلة الاشتراكية، وبالأخص مصر جمال عبد الناصر، وكوبا فيدال كاسترو.
الحلقة الثانية:
قضية إعدام العقيد شعباني
في الحلقة الأولى من سلسلة مذكرات العقيد الطاهر زبيري، قائد أركان الجيش الجزائري، (1963 / 1967)، تناول المؤلف حرب الرمال ضد المغرب، التي اندلعت في 1963 بعد عام واحد فقط من الاستقلال، أما اليوم، فسيتناول المؤلف قضية حساسة، لطالما ألح قراء الشروق بفتح ملفاتها، ويتعلق الأمر بقضية إعدام العقيد محمد شعباني، أصغر عقيد في الجيش الوطني الشعبي، في 3 سبتمبر 1964، وسيجد القارئ تفاصيل أكثر في كتاب العقيد زبيري "نصف قرن من الكفاح: مذكرات قائد أركان جزائري".
شعباني يدعو لتصفية الضباط الفارين من الجيش الفرنسي
انعقد مؤتمر جبهة التحرير الوطني في 1964 في غياب محمد خيضر، الأمين العام للحزب الذي خرج مغاضبا إلى الخارج، واستغل شعباني هذا المؤتمر لتوجيه نقد لاذع ومبطن لبومدين، عندما هاجم تغلغل الضباط الفارين من الجيش الفرنسي داخل هياكل الجيش، وطالب بتنحية هؤلاء من المناصب الحساسة في المؤسسة العسكرية، على أن يقتصر دورهم على الجوانب التقنية فقط.
ووجد هذا الطرح قبولا واسعا لدى معظم المؤتمرين، لكن بومدين كان أكثر إقناعا من شعباني، واستطاع ترجيح الكفة لصالحه، وأوضح في كلمته أن "تصفية الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، والذين التحقوا بالثورة يعني أننا سنضطر إلى الاعتماد على الخبرات العسكرية الأجنبية في تأهيل الجيش، وهذا ما يجعل أسرارنا العسكرية مكشوفة للأجانب، لذلك، فالأولى بنا أن نستعين بهؤلاء الضباط، الذين لا ينكر أحد بأنهم جزائريون جادون في تأطير الجيش وتأهيله، خاصة وأنهم يخضعون للقانون الجزائري".
جاءت هذه المواجهة الساخنة بين شعباني وبومدين، لتزيد الشرخ بين الرجلين، وتبرز للجميع حجم التباين بين نظرة كل طرف في بناء الدولة والجيش، ومع أن بومدين تمكن من كسب هذه الجولة لصالحه، إلا أن شعباني ومعه قطاع واسع من المجاهدين والمناضلين، ظلوا قلقين لما اعتبروه تغلغلا لأعوان الاستعمار من الحركى والمصاليين و"الزرق" وغيرهم في دواليب الدولة، ما جعلهم يرفعون شعار "التصفية".
ورغم المناصب العليا التي أصبح يتبوأها شعباني عسكريا وسياسيا، إلا أنه لم يكن يلتحق بالعاصمة إلا لفترات قصيرة، ثم يعود إلى مركزه في الجنوب، ومرت شهور وشعباني على هذا الحال مما أثار حفيظة بومدين، ودفعه ليؤكد على بن بلة ضرورة التحاق شعباني بمكتبه في وزارة الدفاع وقال له "شعباني مهمته في العاصمة، ويجب أن يترك قيادة الناحية حتى نعين شخصا مكانه".
احتار بن بله في كيفية التعامل مع شعباني، بسبب إصراره على عصيان الأوامر، فقرر إرسالي في وفد ضم كلا من الرائد علي منجلي وآيت الحسين إلى شعباني، الذي كان متمركزا في بسكرة، لإقناعه بالتخلي عن قيادة الناحية العسكرية الرابعة، لكنه رفض بشدة التنازل عن قيادة الناحية، بل وانتقد بومدين والضباط الفارين من الجيش الفرنسي، كما انتقد تعيين بن بله لشخص من غرداية، يدعى خبزي وزيرا في الحكومة دون مشاورته، بالرغم من أن هذا الأخير ينحدر من الولاية السادسة، التي يعتبر أنه مازال مسؤولا عنها ورفض فكرة حلها.
القطرة التي أفاضت الكأس
بعد نحو 15 يوما من هذا اللقاء، كرر بومدين على بن بله نفس الأمر، وشدد على ضرورة استقرار شعباني في العاصمة، لأداء مهامه كنائب لقائد الأركان، وعضو في المكتب السياسي للحزب، حتى يتم تعيين قائد آخر للناحية العسكرية الرابعة.
لم يكن بإمكان بن بله ترك شعباني يتمادى في عصيانه للأوامر، ومع ذلك حاول الحفاظ على شعرة معاوية في التعامل معه، فاتصل به هاتفيا متوددا إليه:
ـ تعالى بقربي لنتعاون.
فرد عليه شعباني بقسوة:
ـ أنت طمأنتني كثيرا في بعض الأمور، لكنك بقيت تتصرف تصرف السياسيين "المتعفنين".
وصفُ شعباني له بـ"السياسي المتعفن" جعل بن بله يستشيط غيظا، واعتبر ذلك إهانة لشخصه، فأعطى الأوامر لبومدين فورا للإعداد عملية عسكرية لإلقاء القبض على شعباني وجميع الجنود الذين معه، وهو الأمر الذي كان ينتظره بومدين بفارغ الصبر، ولم يتأخر في تنفيذه، وكان ذلك في 7 جويلية 1964 .
بلهوشات يلقي القبض على شعباني
كنت حينها في قيادة الأركان، ولم تكن لدي الصلاحيات الكافية لوقف هذه العملية العسكرية أو حتى تأخيرها، فالجيش كان في يد بومدين، لذلك انتقلت في طائرة هيلكوبتر مع شخصين آخرين إلى باتنة، بحجة مراقبة الناحية العسكرية الخامسة (الشرق الجزائري) التي كنت مسؤولا عنها، ولكني في حقيقة الأمر توجهت من باتنة إلى آريس، ومنها إلى بسكرة، علـِّي أستطيع أن أصل إلى شعباني لإقناعه بالعدول عن عصيانه، قبل أن يصل إليه الجيش الذي كان معظم ضباطه من الفارين من الجيش الفرنسي، والذين يحملون حقدا شديدا عليه، وخشيت أن يقتلوه أو ينكلوا به إن وقع أسيرا بين أيديهم، لكني عندما وصلت إلى بسكرة، كان كل شيء قد انتهى وقضي الأمر، لكن لحسن الحظ.. شعباني لم يقتل.
حيث قاد الرائد عبد الله بلهوشات قوات عسكرية زحف بها باتجاه معقل العقيد شعباني ورجاله لمحاصرتهم في بسكرة، إلا أنه لم تقع مواجهات دامية بين الطرفين، إذ تخلى معظم رجال شعباني عن ولائهم له، وانظموا بكامل عتادهم إلى الجيش الوطني الشعبي، غير أن فرقة من الجنود بقيت إلى جانب شعباني للدفاع عنه، ولما تأكد شعباني بأنه غير قادر على مواجهة القوات الزاحفة من الشمال، فر من مدينة بسكرة وتحصن بأحد الجبال القريبة، لكن قوات الجيش لاحقته وجنوده إلى سفح الجبل، وحاصرته وألقت عليه القبض ومن معه أحياء، بعد أسبوع من المطاردة.
محاكمة شعباني
أطلق سراح معظم رجال شعباني، فيما اقتيد هو مع مرافقيه الحسين ساسي والعريف الجيلالي، المدعو سليم، إلى سجن وهران، وظلوا لمدة شهرين (من 7 جويلية إلى 2 سبتمبر 1964) في السجن للتحقيق معهم، وإعداد ملفات محاكمتهم، وتولى هذه المهمة الأخيرة ضابط فار من الجيش الفرنسي، يدعى محمد تواتي، كان حينها برتبة ملازم ثان في الدرك الوطني، وهو الذي أعد ملفات محاكمتي خلال الأزمة التي وقعت لي مع بومدين في 1967، ورقي إلى أن أصبح برتبة جنرال في الجيش، ثم عين مستشارا برئاسة الجمهورية، وكنت أعتقد أنه مادام شعباني في السجن، فلا خوف على حياته، إذ أنه لم يعد يشكل خطرا لا على بومدين ولا على بن بله.
طلب بن بلة من بومدين أن يقدم له أسماء الضباط الذين سيحاكمون شعباني في المحكمة العسكرية، فيما اختار هو وكيل جمهورية يدعى "محمود زرطال"، أما بومدين فاقترح عليه الشاذلي بن جديد، والرائد عبد الغني، وعبد الرحمان بن سالم، وأحمد دراية، وأحمد بن شريف، الذي رقي إلى عقيد حتى يكون في نفس الرتبة العسكرية مع المتهم، أما عبد الله بلهوشات، فرفض أن يكون ضمن هيئة المحكمة، ولم يحضر جلسات محاكمة شعباني، كما حضر جلسات المحكمة النقيب عبد الحميد لطرش.
ونصبت هيئة قضائية عسكرية لمحاكمته في وهران، برئاسة محمود زرطال، وعين أحمد دراية كوَكيل للجمهورية، ووجهت لشعباني تهمة التمرد، وأضافوا له تهمة الاتصال بمصالح الاستخبارات الفرنسية، وغيرها من التهم الملفقة.
ورد شعباني على التهم الموجهة إليه بالتأكيد على مواقفه السابقة الرافضة لهدم الولايات قبل وقتها، متهما بن بله بالنزوع إلى الحكم الفردي، وتمكين بومدين لمن أسماهم "بضباط فرنسا" داخل الجيش، واستدل بموقف خيضر الذي ذهب إلى الخارج، بسبب تصرف بن بله الذي اعتبره غير عقلاني.
واستمرت المحاكمة من الساعة الحادية عشر إلى غاية الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ورغم أن جماعة شعباني استفادت من البراءة، إلا أنهم وُضعوا تحت الإقامة الجبرية، غير أن الحكم الذي نطق به القاضي زرطال ضد العقيد محمد شعباني كان مؤلما وقاسيا.. "الإعدام".
محاولتي إنقاذ شعباني من الموت
كنت في اليوم الذي نفذ فيه حكم الإعدام على شعباني قد عدت إلى مكتبي في وزارة الدفاع، بعد جولة قمت بها داخل الوطن، وجاءني بومدين إلى المكتب وقال لي "هل نخرج إن لم يكن لديك ما تفعله؟"، فلم أمانع، لأننا اعتدنا من حين إلى آخر الخروج، سواء في سيارتي أو في سيارته للتجول في المزارع والحقول المحيطة بالعاصمة.
سألنا عن سائقي أو سائقه فلم نجدهما، فتمشينا في الوزارة والتقينا بالأمين العام لوزارة الدفاع، عبد القادر شابو، ونائبه جلول الخطيب، فطلب بومدين من الخطيب أن يأتينا بكرسيين، ثم سألني بومدين:
ـ هل تعلم بمحكمة وهران أم لا؟
فاجأني بسؤاله هذا، فأجبت على سؤاله بسؤال آخر:
ـ ماذا حدث؟
ـ لقد حكموا على شعباني بالإعدام.
صدمني بومدين بهذا الخبر الذي جعلني أضطرب، ولكني تمالكت نفسي، وقلت له وكأني وجدت الحل لهذا الأمر الجلل:
ـ الذي يملك العفو هو بن بله.
فرد علي بومدين:
ـ شعباني في السجن، وقادة النواحي العسكرية يطلبون من بن بله أن يعفو عنه.
ـ إذن أذهب إلى بن بله وأطلب منه ألا ينفذ الحكم.
فزع بومدين من هذا الأمر، وقال لي حازما وكأنه يوجه لي أمرا:
ـ سي الطاهر.. أطلب منك ألا تذهب إلى بن بله، حتى لا يعتقد بأنني أنا من أرسلتك.
وأضاف:
ـ دعهم.. فهؤلاء كانوا في اتصال مع بعضهم البعض، اتركهم لبعضهم البعض.
وكان يقصد أن بن بله وشعباني كانا متحالفين ضده، والآن هم خصوم، وبالتالي فقد تمكن بومدين من ضرب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة، تخلص من ألد خصومه داخل الجيش، ومن جهة ثانية، سيتحمل بن بله لوحده مسؤولية إعدام شعباني، لأنه هو من أعطى الأوامر بإلقاء القبض عليه، وهو من يملك الحق في العفو أو في تنفيذ حكم الإعدام دون سواه.
حصرني بومدين في زاوية ضيقة، عندما طلب مني عدم الذهاب إلى بن بله للتشفع لشعباني، فلم أكن أحتمل أن يعدم شعباني هكذا ببساطة، رغم أنني كنت أرفض عصيانه للأوامر، بل ومتفهما لقضية إلقاء القبض عليه وسجنه، لكن.. أن يعدم رغم كل ما قدمه من أجل استقلال الجزائر، فهذا حكم قاس.. قاس جدا.
بن بله يرفض شفاعتي
بينما كنت محتارا في أمر شعباني، جاء السفير الجزائري، علي كافي، (والذي شغل منصب سفير في عدة بلدان من بينها سوريا ولبنان وتونس وليبيا) إلى وزارة الدفاع، ليرى بومدين، وعندما دخل المكلف بالتشريفات إلى بومدين، لإبلاغه برغبة علي كافي في مقابلته، خرجت من وزارة الدفاع، ووجدت سائقي فركبت السيارة، وطلبت منه أن يمضي بي إلى البيت.
وفي هذا الوقت، اتصل بن بله بوزارة الدفاع ليطلبني، إلا أنني كنت قد غادرت مكتبي، فاتصل بي في البيت، فوجد بأنني لم أصل بعد، فترك وصية لدى زوجتي، وقال لها "عندما يصل الطاهر قولي له أن يأتيني"، ولما وصلت إلى المنزل أخبرتني زوجتي بالأمر، فاستبشرت بالأمر خيرا، ووجدت أن الفرصة جاءتني لأكلم بن بله في قضية شعباني.
قصدت "فيلا جولي" وصعدت إلى مكتب بن بله في الطابق الخامس، ودخلت عليه فوجدته مستلقيا على أريكة بالقرب من الشرفة المطلة على البحر، فبادرته بالتحية:
ـ سي أحمد.. كيف حالك؟
لكنه بدل أن يرد على تحيتي أو يحدثني عن قضية شعباني، فاجأني بالقول:
ـ اتصلت بك لتهيئ نفسك لتذهب معي غدا إلى القاهرة.
وكان مقررا أن تشارك الجزائر في قمة لمجلس الدفاع العربي، الذي يضم رئيس الدولة ووزير الدفاع وقائد الأركان ووزير الخارجية ووزير المالية لكل دولة عربية مشاركة في المجلس، لكن بن بله أخبرني أن بومدين سيبقى هنا (باعتباره نائبا لرئيس الجمهورية)، أما عبد العزيز بوتفليقة وأحمد فرانسيس، فسيرافقاننا إلى هذا الاجتماع.
وانتهزت الفرصة لأسأله عن شعباني وقلت له:
ـ ماذا عن محكمة وهران.. كيف الأمر؟
فانتفض وقال:
ـ انتهى الأمر.. حكمت المحكمة ونفذ الحكم، ولابد أن نعطي المثال في الصرامة.. فالناس تنتقد غياب الطاعة والنظام.
لم أنتبه إلى أنه كان جادا عندما قال بأن حكم الإعدام قد "نفذ" في حق شعباني، بل كنت أعتبر بأنه مجرد كلام، فقلت له:
ـ يا سي أحمد.. شعباني هو الآن في السجن، ولم يبق له لا ناحية ولا ولاية، ولكن آيت أحمد مازال في الجبال.
وكان حينها آيت أحمد متمردا رفقة العقيد الصادق دهيلس، أحد قادة الولاية الرابعة (وسط الجزائر) في جبال القبائل، وأردت تشتيت انتباهه إلى قضية أخرى حتى لا يستعجل تنفيذ الحكم في حق شعباني، لكن بن بله رد علي:
ـ لكل أمر أوانه.
وبينما نحن في نقاش، إذ دخل علينا فتال والنقاش وعبد الرحمان شريف، فقالوا له:
ـ سي أحمد نحتاجك في أمر.
فنهض بن بله من أريكته لينزوي معهم في مكتب آخر، لكني بادرته بسؤال آخر:
ـ غدا متى يكون الملتقى؟ وأين؟
ـ على التاسعة بقصر الشعب.
غادرت فيلا جولي على أمل أن أجد فرصة أخرى غدا لأكلمه في قضية شعباني.
التقيت بن بله صباح الغد في قصر الشعب، لكن كان إلى جنبه سفير القاهرة في الجزائر السيد "خشبة" وآخرين، فلم أتمكن من الحديث إليه على انفراد، وحتى عندما ركبنا الطائرة، لم أجد فرصة للتكلم معه وهو محاط بمرافقيه، ولما نزلنا في مطار القاهرة، استقبل جمال عبد الناصر صديقه، واتجها لوحدهما في جهة، بينما أخذونا نحن إلى الفندق.
وفي صباح اليوم الموالي، وبينما كنت أطالع الصحف المصرية، صدمت لما قرأت عنوانا يتحدث عن "تنفيذ حكم الإعدام في حق شعباني"، ولم أصدق الأمر، لقد انتهى كل شيء، ولم يعد هناك أي أمل لإنقاذه من الموت المحتوم، وعلمت فيما بعد، أن حكم الإعدام نفذ فجر اليوم الموالي للمحاكمة، أي ساعات قليلة بعد النطق بالحكم، ونفذ النقيب عبد الحميد لطرش الحكم عليه رميا بالرصاص، وانطفأت شمعة أصغر عقيد في الجيش الوطني الشعبي إلى الأبد.