تاريخ منطقة الجلفة
من عصور ما قبل التاريخ إلى الحقبة الرومانية
العصور القديمة
كانت منطقة الجلفة قبل عشرات الملايين من السنوات عائمة تحت الماء، بدليل اكتشاف مجموعة من الصدفات المتحجرة، التي هي محفوظة ومعروضة بالمتحف المحلي للمدينة.
ويرجع تاريخ وجود الإنسان بالمنطقة إلى عصر ما قبل التاريخ فقد تم العثور- منذ بداية القرن العشرين- على نقوش ورسومات صخرية وكتابات ليبية بربرية يعود أقدم تاريخ لهذه الآثار إلى حوالي 9000 سنة قبل الميلاد.
هذه الرسومات والنقوشات تتوزع على محطات عدة في الجلفة من أهمها :
محطة عين الناقة: التي تبعد بحوالي 45 كلما جنوب الجلفة وتزخر برسومات أثرية عديدة لمجموعة حيوانات، مثل الحيرمين العتيقين (Les deux Buffles antiques) الضخمين (أكبر هذين الرسمين مساحته 219 سم)، ويوجد بالمحطة أيضا رسم لفيل كبير، ورسم لامرأة ورجل يدعيان: العاشقين الخجولين. ويوجد بالمنطقة أبعد تاريخ للحضارة القفصية، يحدد ب: 7350 سنة ق. م.
محطة حجر سيدي بوبكر: اكتشفت سنة 1965 من قبل فرانسوا دو فيلاري. وهذه المحطة قريبة من مسعد، وتحمل عدة نقوشات صخرية من جهاتها المختلفة. . مثل الكبش الذي تعلوه شبه كرة فوق رأسه (Le bélér à spheroide)، وعلى يمينه نعجة لا تظهر فوق رأسها شبه الكرة Brébis sans spheroide. [1]
محطة حصباية: اكتشفت هذه المحطة في عملية عسكرية للفرنسيين أثناء الاحتلال، وأعيد اكتشافها سنة 1964 من قبل دوفيلاري وبلانشار. تبعد بحوالي 75 كلما عن مدينة الجلفة جنوبا، حيث نجد نقوشا صخرية لفيلة وأبقار ونعامات وأرانب ورسما لإنسان[2].
وهنا تظهر ملامح العصر النيوليتي (العصر الحجري الحديث) الذي بدأ في الشرق الأوسط منذ 7000 سنة قبل الميلاد، مما دل على وجود الإنسان في المنطقة خلال هذا العصر. [3]
محطة خنق الهلال: اكتشفها سنة 1966 براتفيال ودوفيلاري. محطة قريبة من عين الإبل، فيها رسم لثور (حيرم) عتيق، وكبش تعلوه شبه كرة. ويوجد رسم لأسد كبير لا يظهر ذيله، ويتجه بوجهه إلى اليمين. [4]
محطة عمورة: تقع بمنطقة مسعد، وقد اكتشفت سنة 1965. وفيها رسم لفيلين
محطة ثنية المزاب: تبعد بحوالي 45 كلما جنوب الجلفة. يعود تاريخ رسومها إلى 6000 سنة قبل الميلاد. نجد في صخورها الصفراء رسومات غامضة صعبة الفهم، ورسما لفيل ضخم وآخر صغير، ولشخص يظهر شعره بهيئة غريبة. [5]
محطة زكار: اكتشفت هذه المحطة سنة 1907 من قبل السيد: ماقني القاضي في الجلفة أنذاك. فيها رسوم جميلة ودقيقة لظبي إفريقي يجثو على ركبتيه، بينما يلتهمه أسد، مع أن الأسد يبدو أقل شكلا. . وفيها رسوم لنعامة ولوحيد القرن. .
محطة صفية بورنان: اكتشفت سنة 1954 من قبل بيلان. تقع بين مسعد والمجبارة. وفيها رسومات لفيل وكبش ونعامات وغزال، وكذا مجموعة من الخيول. . . الخ[6]
ويرى هونري لوت أن المحطة تعود إلى حوالي 5020 أو 5270 سنة قبل الميلاد[7].
القبائل البربرية في الجلفة
أما وجود القبائل البربرية في حدود منطقة الجلفة فكان قديما، إذ يذكر الأب فرانسوا دوفيلاري أن المنطقة وما جاورها كانت تنتمي إلى البربر منذ سنة 1500 قبل الميلاد وحتى سنة 1000 م، وأن هناك شعبا بربريا عرف بالبداوة وكان يسمى "الجيتول"، اجتمع منذ عهد ما قبل التاريخ من بقايا النيوليتيكيين (العصر الحجري المتأخر أو الحديث)ومن الاقوام التي نزحت من المشرق (من فلسطين أو جنوب اليمن)، ومن سردينيا في الغرب.
تدل على ذلك الكتابات الليبية التي اكتشفت في مناطق مثل: وادي حصباية، وصفية بورنان وعين الناقة وصفية البارود. وتدل على ذلك أيضا بعض الأضرحة بأنواعها التي يذكر الأطلس الاركيولوجي وجودها في منطقة الجلفة، في الادريسية وقلتة السطل وجنوب وادي جدي بالقرب من ضاية زخروفة. بالإضافة إلى بعض رسومات الأحصنة والجمال.
وتجدر العودة هنا إلى ابن خلدون في البحث عن تاريخ البربر في منطقة الجلفة.
وابن خلدون لا يستعمل كلمة "الجيتول"، بل يطلق على هؤلاء اسم البربر، ويركز على الزناتيين البربر، ويذكر فروعا لهذه القبيلة، سكنت مناطق الجلفة وما جاورها.
تنتمي هذه الفروع كلها إلى بطن مغراوة. . تساعدنا في ذلك التحديدات المكانية التي يصفها ابن خلدون.
من بين هؤلاء البربر بنو سنجاس الزناتيون من مغراوة، إذ ينقل ابن خلدون عن أحد نسابي زناتة قوله: « ولم تزل هذه البطون الأربعة من أوسع بطون مغراوة. فأما بنوسنجاس فلهم مواطن في كل عمل من أفريقية والمغربين فمنهم قبلة المغرب الأوسط بجبل راشد وجبل كريرة وبعمل الزاب وعمل الشلف، ونازلوا قفصة سنة أربع عشر وخمسمائة. . »
وليس جبل راشد إلا الجبل المعروف الآن باسم "جبل العمور" الواقع غرب الجلفة.
ويؤكد ابن خلدون ذلك في موقع آخر من "تاريخه"، فيقول: « ومن بني سنجاس هؤلاء بأرض المشنتل "جبل السحاري نسبة إلى السحاري الهلاليين الذين استوطنوه فيما بعد. يقع الجبل شمال الجلفة" ما بين الزاب وجبل راشد، أوطنوا جباله في جوار غمرة، وصاروا عند تغلب الهلاليين في ملكهم يقبضون الاتاوة منهم ».
ولا شك في أن كلمة غمرة التي وردت أيضا في الكلام السابق، هو اسم قبيلة أخرى بربرية سكنت المنطقة بجوار بني سنجاس، وهو يقصد بها قبيلة "غمرت" أو " واغمرت" - كما يقول البربر-، إذ يذكرها ابن خلدون في سياق آخر بهذا الاسم البربري، فيقول عنها: « وأما واغمرت، ويسمون لهذا العهد غمرت، وهم اخوة وجديجن، ومن ولد ورتنيص بن جانا كما قلناه، فكانوا من أوفر القبائل عددا، ومواطنهم متفرقة، وجمهورهم بالجبال الى قبلة بلاد صنهاجة من المشنتل "جبل السحاري" إلى الدوسن ».
أما طريقة هؤلاء البربر في العيش، فقد كانت البداوة سمة عامة تطبعها، فقد «. . اشتهر الجيتوليون في تاريخ المغرب القديم بكونهم رعاة نموذجيين، حتى شبههم سترابون "strabon " بالعرب البدو، ووصف خيولهم وأبقارهم بأنها كثيرة العدد ». « كما أنهم ألفوا الانتقال نحو الشمال عبر العصور عندما تحل مواسم الرعي في بلاد التل ».
كما رأى ابن خلدون ان صفة الزناتيين البربر كانت الحياة البدوية، وما تقتضيه من تنقل تلك القبائل بين المواطن بحثا عن أماكن الانتجاع، فذكر أنهم يسكنون الخيام، ويتخذون الخيل والإبل، ويألفون رحلتي الشتاء والصيف، وكذا يغيرون على العمران (وهي حياة تشبه إلى حد بعيد حياة العرب في شبه الجزيرة العربية)، وربما كانت هذه من أهم العوامل التي سهلت مجيء العرب المسلمين واستيطانهم البلاد، وسهولة تعاملهم مع السكان البربر الأصليين.
الرومان في منطقة الجلفة
من أهم الوسائل التي اعتمدتها السياسة الرومانية من أجل إحكام السيطرة على الأراضي الجزائرية بناء بعض التحصينات " Les limes" التي امتدت من شط الحضنة شمالا إلى وادي جدي جنوبا. وفي سنة 126م امتدت هذه الحصون (Les limes) جنوب وادي جدي، وبذلك شملت منطقة الجلفة وكان الغرض منها صد أي هجمات متوقعة أو تحركات مريبة.
كما اعتمد الرومانيون على إنشاء قلاع، مثل قلعة ديميدي Castellum Dimmidi الواقعة قرب مدينة مسعد الآن. وقد بنيت في عهد الامبراطور الروماني سبتوس سفيروس. وكان ذلك سنة 198 م في رأي جلبير شارل بيكار، بينما يرى شارل اندري جوليان أنها بنيت سنة 201 م.
واستمر عمل هذه القلعة إلى غاية سنة 240 للميلاد. ولم تكن الوحيدة في هذه المناطق، بل بنيت قلاع أخرى في الجنوب، في "القاهرة" وعين الريش والدوسن وبورادة، وكلها تقع في امتداد استراتيجي يتحكم في الاقليم الممند جنوب حوض الحضنة.
ولا شك في أن المكان المسمى دمد في منطقة مسعد أخذ تسميته من هذه القلعة التي تمثل موقعا مهما من الناحية التاريخية الاثرية، إذ كان يحوي بعض الاثار والأدوات البرونزية والخزفية، وكذا رسوما جدارية. . وجلها تم استخراجه في نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، ووضع للعرض في متحف الآثار القديمة بالجزائر.
وهكذا فقد كانت مهمة هذه الحصون والقلاع التي وضعها الرومان هي احكام السيطرة وتوفير المن لنفسهم في الشمال الجزائري الذي عرف التركيز الاستيطاني أنذاك، إذ سمحت هذه الاجراءات بمراقبة تحركات البدو الذين كانوا يتنقلون في حدود هذه المناطق.
ولازالت بعض آثار قلعة ديميدي التي بنيت على وادي يعد أحد روافد وادي جدي المنطلق من المنحدرات الجنوبية لجبال أولاد نايل، لا زالت موجودة بمدينة مسعد في المكان المسمى دمد، ولازالت بعض القطع الأثرية المنقوشة من بنيانها معروضة بالمتحف السياحي لمدينة الجلفة.
[1][1]Henri Lhote: gravures rupes tres de l'Allas saharien , P: 108
[2]Henri Lhate: lbid , P :143
[3] مجلد المعهد التكنولوجي، المرجع سابق، ص: 36.
[4]Henri Lhote: gravures rupes tres de l'Allas saharien , P 108
[5]مجلد المعهد التكنلوجي مرجع سابق ص 36
[6]Henri Lhate: lbid , P :34
[7]Henri Lhate: lbid , P :281